الظّاهر والواضح أنّكم لم تفهموا موقفنا من الزّعيم الحبيب بورقيبة رحمه الله. ما يُحسَب لبورقيبة : ثقافته و أسلوبه الخطابيّ البارع و تفكيره النّيّر وتطبيقه لأفكار الحدّاد وقاسم أمين في ما يخصّ المرأة وإيلاؤه التّعليم و الصّحّة الإهتمام الأقصى. ولكنّه في ما عدا ذلك أظهر ضعفا في إدارته شؤون البلاد من البداية خصوصا من النّاحية الإقتصاديّة. فما قولكم في "رجل دولة" يتبنّى منظومة اقتصاديّة اشتراكيّة ويبالغ في تلميعها لدى المواطنين ويعدّد محاسنها في خطبه وتدخّلاته و كأنّها من بنات أفكاره، وعندما فشلت التّجربة تملّص من المسؤوليّة وردّ الخيبة على وجه عضده الذي كان يمدحه، وألقى به في السّجن،"رجل دولة". ثمّ اختار له عضدا آخر سرعان ما تعسّف عليه و أقاله ووصفه ب"البهيم الأدغم"، "رجل دولة". ثمّ وبكامل الإبداع يلقّن للقذّافي درسا في الحكمة والتّبصّر في ما يخصّ الوحدة، وفي ضرف سنة ونصف، يفاجؤنا "رجل الدّولة" بالإمضاء على وثيقة "الجمهوريّة الإسلاميّة" والوحدة بين تونس وليبيا. ثمّ يتراجع "رجل الدّولة" في ذلك ليمضي إلى إعداد خطّة "الرّئيس مدى الحياة"، مع العلم أنّه في هذه الحقبة كان الإقتصاد يمرّ من أزمة إلى أزمة ومن تجربة إلى أخرى. "ماكينة" بورقيبة رحمه الله سحقت الكثير مثل أحمد بن صالح و الباهي الأدغم و الهادي نويرة و مزالي. كان الأمر سهلا بالنّسبة إليه : يوافق على مشروع ويتبنّاه، فإذا فشل هذا المشروع ألصق الفشل على أحد أعضاده و رمى به إلى الهاوية موغلا في ذمّه واحتقاره وتراجع عن المشروع، وخساس القوم يهلّلون ويصفّقون. وتصل الأمور في الثّمانينات إلى أشدّها وينهار الإقتصاد، وهذا لا ينكره إلّا كاذب حقير، فتؤول الأمور إلى ما آلت إليه من اعتلاء بن علي كرسيّ الحكم. فإذا بهؤلاء الذين يمدحون بورقيبة الآن، يهلّلون لبن علي منقذ تونس من الهوّة السّحيقة التي كانت تهدّدها ومن الدّكتاتوريّة المقيتة التي كانت تعيشها ويباركون التّغيير، و يغيّرون قمصانهم وسرابيلهم ويسيرون مع سيّدهم الثّاني، ناسين بورقيبة ومزاياه ومناقبه، مطبّلين لصانع التّغيير منقذ تونس من آفات بورقيبة. إلى أن فرّ سيّدهم المنقذ.......ولا أطيل عليكم، ولكنّي أقول، هاهم اليوم قد رجعوا إلى من أنكروه ولم ينصروه، يريدون إعادة حقبة تاريخيّة مجّتها البلاد، وما ذلك حبّا في بورقيبة رحمه الله، ولكن لفساد و مرض في أنفسهم، وخسّة و دناءة فيهم. قلنا لهم تعالوا ندرس تاريخ الحركة الوطنيّة "علميّا" لنعطي لقيصر ما لقيصر، فإذا بهم يأتوننا ب"مرجعيّات" مضحكة، تمعّشت في زمن ما قبل الثّورة، واختبأت في الأشهر الأولى للثّورة، وهاهي الآن تطلّ علينا ببراعتها التّزويقيّة التي ورثتها عن معبودها الذي لم تنجب تونس سواه -حسب قولهم-، لتصحّح التّاريخ، بإعادة ما سمعناه في محاضرات بورقيبة رحمه الله، في كلّيّة الصّحافة وعلوم الأخبار في أوّل السّبعينات. كأنّ ما نحتاج إليه لقراءة التّاريخ هو رجا فرحات و ابن خلدون القرن الواحد والعشرين "التّميمي" الذي اعتمد على أرهاط مثل الصّيّاح وبلخوجة في "تمبمبّته". والمضحك أنّهم انتشوا بالإهتمام الفرنسيّ لبورقيبة، التي من الواضح الجليّ، تعرض عليهم صكّا على بياض إذا ما أعادوا تونس إلى زمن ما قبل 1987، وكأنّما قامت الثّورة لإعادة عهد بورقيبة. فإمّا أن يكونوا واعون بما يفعلون فهم إذا خونة، وإمّا أن يكونوا فعلا يهيمون في حبّ بورقيبة فهم إذا دراويش، مثلهم مثل من يريد تعدّد الزّوجات و ختان البنات و تطبيق الحدود.رحم الله بورقيبة لنباهته و ثقافته وحداثته و فكره الثّاقب في سياسته الخارجيّة -و خصوصا القضيّة الفلسطينيّة-، وغفر له استبداده بالرّأي وجبروته ونرجسيّته وقهره لشعبه الذي غرس فيه الذّلّ والعبوديّة ولعق الأيدي رغم تعلّمه.